فصل: فصــل: من الإيمان بالله وكتبه‏:‏ الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **


 فَصــل

في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏

فالسنة تفسر القرآن وتبينه، وتدل عليه، وتعبر عنه، وما وصف الرسول صلى الله عليه وسلم به ربه ـ عز وجل ـ من الأحاديث الصحاح التي تلقاها أهل المعرفة بالقبول وجب الإيمان بها كذلك‏.‏

مثل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ينزل ربنا إلى سماء الدنيا كل ليلة، حين يبقى ثلث الليل الآخر، فيقول‏:‏ من يدعوني فأستجيب ‏[‏في المطبوعة‏:‏ ‏(‏فأستجب‏)‏، والصواب ما أثبتناه‏]‏ له‏؟‏ من يسألني فأعطيه‏؟‏ من يستغفرني فأغفر له‏؟‏‏)‏ متفق عليه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لله أشد فرحًا بتوبة عبده من أحدكم براحلته‏)‏ الحديث متفق عليه‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يضحك الله إلى رجلين، يقتل أحدهما الآخر، كلاهما يدخل الجنة‏)‏ متفق عليه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏عجب ربنا من قنوط عباده وقرب غيره، ينظر إليكم أزلين قنطين، فيظل يضحك، يعلم أن فرجكم قريب‏)‏ حديث حسن‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تزال جهنم يلقى فيها وهي تقول‏:‏ هل من مزيد ‏؟‏ حتى يضع رب العزة فيها رجله ـ وفي رواية‏:‏ عليها قدمه ـ فينزوي بعضها إلى بعض، وتقول‏:‏ قط قط‏)‏ متفق عليه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏يقول الله تعالى‏:‏ يا آدم، فيقول‏:‏ لبيك وسعديك‏.‏ فينادي بصوت‏:‏ إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار‏)‏ متفق عليه، وقوله‏:‏‏)‏ ما منكم من أحد إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان‏)‏‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم في رقية المريض‏:‏ ‏(‏ربنا الله الذي في السماء، تقدس اسمك، أمرك في السماء والأرض كما رحمتك في السماء، اجعل رحمتك في الأرض،اغفر لنا حوْبَنا ‏[‏وقوله‏:‏ ‏(‏حوبنا‏)‏‏:‏ أي‏:‏ إثمنا‏]‏ وخطايانا، أنت رب الطيبين، أنزل رحمة من رحمتك وشفاء من شفائك على هذا الوجع، فيبرأ‏)‏ حديث حسن‏.‏ رواه أبو داود وغيره‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ألا تأمنوني وأنا أمين من في السماء‏)‏ حديث صحيح‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏والعرش فوق الماء والله فوق العرش، وهو يعلم ما أنتم عليه‏)‏ حديث حسن رواه أبو داود وغيره‏.‏ وقوله صلى الله عليه وسلم للجارية‏:‏ ‏(‏أين الله‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ في السماء‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏من أنا‏؟‏‏)‏ قالت‏:‏ أنت رسول الله‏.‏ قال‏:‏ ‏(‏أعتقها فإنها مؤمنة‏)‏ رواه مسلم‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏أفضل الإيمان‏:‏ أن تعلم أن الله معك حيثما كنت‏)‏ حديث حسن‏.‏ وقوله‏:‏ ‏(‏إذا قام أحدكم إلى الصلاة فلا يبْصُقْ قبل وجهه، ولا عن يمينه، فإن الله قبل وجهه، ولكن عن يساره أو تحت قدمه‏)‏‏.‏ متفق عليه‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏اللهم رب السموات السبع، ورب العرش العظيم، ربنا ورب كل شيء فالق الحب والنوى، منزل التوراة والإنجيل والقرآن، أعوذ بك من شر نفسي ومن شر كل دابة أنت آخذ بناصيتها، أنت الأول فليس قبلك شيء، وأنت الآخر فليس بعدك شيء، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء، وأنت الباطن فليس دونك شيء، اقض عني الدين واغنني من الفقر‏)‏ رواه مسلم‏.‏

وقوله ـ لما رفع أصحابه أصواتهم بالذكرـ‏:‏ ‏(‏أيها الناس،ارْبعُوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائالا، إنما تدعون سميعًا قريالا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏)‏ متفق عليه ‏[‏قوله‏:‏ ‏(‏اربعُوا‏)‏‏:‏ أي‏:‏ ارفقوا‏]‏

وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إنكم سترون ربكم كما ترون القمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم ألا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها، فافعلوا‏)‏ متفق عليه‏.‏

إلى أمثال هذه الأحاديث التي يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ربه بما يخبر به‏.‏

فإن الفرقة الناجية ـ أهل السنة والجماعة ـ يؤمنون بذلك، كما يؤمنون بما أخبر الله به في كتابه العزيز، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم‏.‏

فهم وسط في باب صفات الله ـ سبحانه وتعالى ـ بين أهل التعطيل الجهمية، وأهل التمثيل المشبهة‏.‏

وهم وسط في باب أفعال الله ـ تعالى ـ بين القدرية والجبرية‏.‏

وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية، من القدرية وغيرهم‏.‏

وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية‏.‏

وفي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الروافض، والخوارج‏.‏

 فصــل

وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله‏:‏ الإيمان بما أخبر الله به في كتابه، وتواتر عن رسوله صلى الله عليه وسلم، وأجمع عليه سلف الأمة، من أنه ـ سبحانه ـ فوق سمواته علىُّ عرشه، على على خلقه، وهو سبحانه معهم أينما كانوا، يعلم ما هم عاملون، كما جمع بين ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏4‏]‏‏.‏

وليس معنى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُوَ مَعَكُمْ‏}‏ أنه مختلط بالخلق؛ فإن هذا لا توجبه اللغة، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته، هو موضوع في السماء، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان، وهو سبحانه فوق العرش، رقيب على خلقه مهيمن عليهم، مطلع إليهم، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته‏.‏

وكل هذا الكلام الذي ذكره الله ـ سبحانه ـ من أنه فوق العرش، وأنه معنا ـ حق على حقيقته لا يحتاج إلى تحريف، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة، مثل أن يظن أن ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏فى السَّمَاءِ‏}‏ أن السماء تقله أو تظله، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإيمان، فإن الله قد وسع كرسيه السموات والأرض، وهو الذي يمسك السموات والأرض أن تزولا، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه، ‏{‏وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السَّمَاء وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏25‏]‏‏.‏

 فصــل

وقد دخل في ذلك‏:‏ الإيمان بأنه قريب من خلقه، مجيب، كما جمع بين ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ‏}‏ الآية ‏[‏البقرة‏:‏186‏]‏‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم للصحابة ـ لما رفعوا أصواتهم بالذكر ـ‏:‏ ‏(‏أيها الناس، اربعوا على أنفسكم، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائالا، إن الذي تدعونه أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته‏)‏ وما ذكر في الكتاب والسنة ـ من قربه ومعيته ـ لا ينافى ما ذكر من علوه وفوقيته، فإنه ـ سبحانه ـ ليس كمثله شيء في جميع نعوته، وهو عليٌّ في دنوه قريبٌ في علوه‏.‏

 فصــل

ومن الإيمان بالله وكتبه‏:‏ الإيمان بأن القرآن كلام الله منزل غير مخلوق، منه بدأ، وإليه يعود،وأن الله تعالى تكلم به حقيقة، وأن هذا القرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة لا كلام غيره، ولا يجوز إطلاق القول بأنه حكاية عن كلام الله أو عبارة عنه، بل إذا قرأه الناس أو كتبوه بذلك في المصاحف، لم يخرج بذلك عن أن يكون كلام الله ـ تعالى ـ حقيقة، فإن الكلام إنما يضاف حقيقة إلى من قاله مبتدئًا، لا إلى من قاله مبلغًا مؤديًا‏.‏

وهو كلام الله، حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف‏.‏

 فصــل

وقد دخل ـ أيضًا ـ فيما ذكرناه من الإيمان به وبكتبه وبرسله‏:‏ الإيمان بأن المؤمنين يرونه يوم القيامة عيانًا بأبصارهم، كما يرون الشمس صحوًا ليس دونها سحاب، وكما يرون القمر ليلة البدر لا يضامون في رؤيته، يرونه ـ سبحانه ـ وهم في عرصات القيامة، ثم يرونه بعد دخول الجنة، كما يشاء الله ـ سبحانه وتعالى‏.‏

 فصــل

ومن الإيمان باليوم الآخر‏:‏ الإيمان بكل ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم مما يكون بعد الموت، فيؤمنون بفتنة القبر، وبعذاب القبر، وبنعيمه‏.‏

فأما الفتنة، فإن الناس يفتنون في قبورهم، فيقال للرجل‏:‏ من ربك‏؟‏ وما دينك‏؟‏ ومن نبيك‏؟‏ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، فيقول المؤمن‏:‏ الله ربي، والإسلام ديني، ومحمد صلى الله عليه وسلم نبيىِ، وأما المرتاب فيقول‏:‏ هاه، هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئًا فقلته، فيضرب بمرزبة من حديد، فيصيح صيحة يسمعها كل شيء إلا الإنسان، ولو سمعها الإنسان لصعق‏.‏

ثم بعد هذه الفتنة، إما نعيم، وإما عذاب، إلى أن تقوم القيامة الكبرى‏.‏ فتعاد الأرواح إلى الأجساد، وتقوم القيامة التي أخبر الله بها في كتابه، وعلى لسان رسوله، وأجمع عليها المسلمون، فيقوم الناس من قبورهم لرب العالمين حفاة عراة غُرْلاً، وتَدْنُو منهم الشمس، ويلجمهم العرق‏.‏

وتنصب الموازين، فتوزن فيها أعمال العباد، ‏{‏فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏102، 103‏]‏‏.‏

وتنشر الدواوين ـ وهي صحائف الأعمال ـ فآخذ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله، أو من وراء ظهره، كما قال ـ سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏13، 14‏]‏‏.‏

ويحاسب الله الخلائق، ويخلو بعبده المؤمن فيقرره بذنوبه، كما وصف ذلك في الكتاب والسنة‏.‏

وأما الكفار، فلا يحاسبون محاسبة من توزن حسناته وسيئاته، فإنه لا حسنات لهم، ولكن تعد أعمالهم وتحصى، فيوقفون عليها ويقررون بها ويجزون بها‏.‏

وفي عرصة القيامة الحوض المورود لمحمد صلى الله عليه وسلم، ماؤه أشد بياضًا من اللبن، وأحلى من العسل، آنيته عدد نجوم السماء، طوله شهر وعرضه شهر، من يشرب منه شربة لم يظمأ بعدها أبدا‏.‏

والصراط منصوب على متن جهنم ـ وهو الجسر الذي بين الجنة والنار ـ يمر الناس عليه على قدر أعمالهم، فمنهم من يمر كلمح البصر، ومنهم من يمر كالبرق الخاطف، ومنهم من يمر كالريح، ومنهم من يمر كالفرس الجواد، ومنهم من يمر كركاب الإبل، ومنهم من يعدو عدوًا، ومنهم من يمشى مشيًا، ومنهم من يزحف زحفًا، ومنهم من يخطف فليقى في جهنم؛ فإن الجسر عليه كلاليب تخطف الناس بأعمالهم، فمن مر على الصراط دخل الجنة‏.‏

فإذا عبروا عليه وقفوا على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض، فإذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة‏.‏

وأول من يستفتح باب الجنة محمد صلى الله عليه وسلم، وأول من يدخل الجنة من الأمم أمته‏.‏

وله صلى الله عليه وسلم ـ في القيامة ـ ثلاث شفاعات‏:‏

أما الشفاعة الأولى‏:‏ فيشفع في أهل الموقف، حتى يقضي بينهم بعد أن تتراجع الأنبياء، آدم، ونوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى ابن مريم عن الشفاعة، حتى تنتهي إليه‏.‏

وأما الشفاعة الثانية‏:‏ فيشفع في أهل الجنة أن يدخلوا الجنة، وهاتان الشفاعتان خاصتان له‏.‏

وأما الشفاعة الثالثة‏:‏ فيشفع فيمن استحق النار، وهذه الشفاعة له ولسائر النبيين، والصديقين وغيرهم، فيشفع فيمن استحق النار ألا يدخلها، ويشفع فيمن دخلها أن يخرج منها، ويخرج الله ـ تعالى ـ من النار أقوامًا بغير شفاعة، بل بفضله ورحمته، ويبقى في الجنة فضل عمن دخلها من أهل الدنيا، فينشئ الله لها أقوامًا فيدخلهم الجنة‏.‏

وأصناف ما تضمنته الدار الآخرة من الحساب، والثواب والعقاب، والجنة والنار، وتفاصيل ذلك مذكورة في الكتب المنزلة من السماء، والآثار من العلم المأثورة عن الأنبياء، وفي العلم الموروث عن محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك ما يشفى ويكفي، فمن ابتغاه وجده‏.‏

وتؤمن الفرقة الناجية ـ أهل السنة والجماعة ـ بالقدر؛ خيره وشره، والإيمان بالقدر على درجتين، كل درجة تتضمن شيئين‏:‏

فالدرجة الأولى‏:‏ الإيمان بأن الله ـ تعالى ـ علم ما الخلق عاملون بعلمه القديم، الذي هو موصوف به أزلاً، وعلم جميع أحوالهم من الطاعات والمعاصي والأرزاق والآجال‏.‏

ثم كتب الله في اللوح المحفوظ مقادير الخلق‏:‏ ‏(‏فأول ما خلق الله القلم قال له‏:‏ اكتب قال‏:‏ ما أكتب‏؟‏ قال‏:‏ اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة‏)‏ فما أصاب الإنسان لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه، جفت الأقلام وطويت الصحف كما قال سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحج‏:‏70‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏22‏]‏‏.‏

وهذا التقدير ـ التابع لعلمه سبحانه ـ يكون في مواضع جملة وتفصيلا، فقد كتب في اللوح المحفوظ ما شاء‏.‏ وإذا خلق جسد الجنين قبل نفخ الروح فيه بعث إليه ملكًا، فيؤمر بأربع كلمات، فيقال له‏:‏ اكتب رزقه، وأجله، وعمله، وشقي أو سعيد، ونحو ذلك، فهذا القدر قد كان ينكره غلاة القدرية قديمًا، ومنكره اليوم قليل‏.‏

وأما الدرجة الثانية‏:‏ فهو مشيئة الله النافذة، وقدرته الشاملة، وهو الإيمان بأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، وأنه ما في السموات والأرض من حركة ولا سكون إلا بمشيئة الله ـ سبحانه ـ لا يكون في ملكه إلا ما يريد، وأنه ـ سبحانه وتعالى ـ على كل شيء قدير من الموجودات والمعدومات‏.‏

فما من مخلوق في الأرض ولا في السماء إلا الله خالقه ـ سبحانه ـ لا خالق غيره ولا رب سواه‏.‏

ومع ذلك، فقد أمر العباد بطاعته وطاعة رسله، ونهاهم عن معصيته‏.‏

وهو ـ سبحانه ـ يحب المتقين، والمحسنين والمقسطين، ويرضى عن الذين آمنوا وعملوا الصالحات، ولا يحب الكافرين، ولا يرضى عن القوم الفاسقين ولا يأمر بالفحشاء، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يحب الفساد‏.‏

والعباد فاعلون حقيقة، والله خالق أفعالهم، والعبد هو المؤمن والكافر والبر والفاجر، والمصلي والصائم، وللعباد قدرة على أعمالهم ولهم إرادة، والله خالقهم وخالق قدرتهم وإرادتهم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏لِمَن شَاء مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ‏}‏ ‏[‏التكوير‏:‏28، 29‏]‏‏.‏

وهذه الدرجة من القدر، يكذب بها عامة القدرية، الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم مجوس هذه الأمة، ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويخرجون عن أفعال الله وأحكامه حكمها ومصالحها‏.‏

 فصــل

ومن أصول أهل السنة‏:‏ أن الدين والإيمان قول وعمل؛ قول القلب واللسان، وعمل القلب واللسان والجوارح، وأن الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية‏.‏

وهم مع ذلك لا يكفرون أهل القبلة بمطلق المعاصي والكبائر، كما يفعله الخوارج، بل الأخوة الإيمانية ثابتة مع المعاصي، كما قال ـ سبحانه وتعالى ـ في آية القصاص‏:‏ ‏{‏ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 178‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏9، 10‏]‏‏.‏

ولا يسلبون الفاسق المِلِّيّ ‏[‏المِلِّي‏:‏ نسبة إلى أهل الملل من المسلمين واليهود والنصارى‏]‏ اسم الإيمان بالكلية ولا يخلدونه في النار، كما تقوله المعتزلة، بل الفاسق يدخل في اسم الإيمان في مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏92‏]‏‏.‏

وقد لا يدخل في اسم الإيمان المطلق، كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏2‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا يزنى الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا ينتهب نُهْبةً ذات شرف يرفع الناس إليه فيها أبصارهم حين ينتهبها وهو مؤمن‏)‏‏.‏ ‏[‏قوله‏:‏ ‏(‏لا ينتهب نهبة‏)‏‏:‏ النهب‏:‏ الغارة والسلب، أي‏:‏لا يختلس شيئًا له قيمة عالية‏]‏

ويقولون‏:‏ هو مؤمن ناقص الإيمان، أو مؤمن بإيمانه فاسق بكبيرته، فلا يعطى الاسم المطلق، ولا يسلب مطلق الاسم‏.‏

 فصــل

ومن أصول أهل السنة والجماعة‏:‏ سلامة قلوبهم وألسنتهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما وصفهم الله به في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَالَّذِينَ جَاؤُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ‏}‏ ‏[‏الحشر‏:‏10‏]‏‏.‏

وطاعة النبي صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏(‏لا تسبوا أصحابي، فوالذي نفسي بيده، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهالا ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نَصِيفَه‏)‏‏.‏ ويقبلون ما جاء به الكتاب والسنة والإجماع، من فضائلهم ومراتبهم، فيفضلون من أنفق من قبل الفتح ـ وهو صلح الحديبية ـ وقاتل على من أنفق من بعده وقاتل، ويقدمون المهاجرين على الأنصار، ويؤمنون بأن الله قال لأهل بدر ـ وكانوا ثلاثمائة وبضعة عشر ـ‏:‏ ‏(‏اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم‏)‏، وبأنه لا يدخل النار أحد بايع تحت الشجرة، كما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم، بل قد رضي الله عنهم ورضوا عنه، وكانوا أكثر من ألف وأربعمائة‏.‏

ويشهدون بالجنة لمن شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة، كالعشرة، وكثابت بن قيس بن شماس، وغيرهم من الصحابة‏.‏

ويقرون بما تواتر به النقل عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه ـ وعن غيره، من أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ويثلثون بعثمان، ويربعون بعلي ـ رضي الله عنهم ـ كما دلت عليه الآثار، وكما أجمع الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ على تقديم عثمان في البيعة، مع أن بعض أهل السنة كانوا قد اختلفوا في عثمان وعلي ـ رضي الله عنهما ـ بعد اتفاقهم على تقديم أبي بكر وعمر ـ أيهما أفضل، فقدم قوم عثمان وسكتوا، أو ربعوا بعلي، وقدم قوم عليًا، وقوم توقفوا، لكن استقر أمر أهل السنة على تقديم عثمان، وإن كانت هذه المسألة ـ مسألة عثمان وعلي ـ ليست من الأصول التي يضلل المخالف فيها عند جمهور أهل السنة، لكن المسألة التي يضلل المخالف فيها هي مسألة الخلافة‏.‏

وذلك أنهم يؤمنون بأن الخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ومن طعن في خلافة أحد من هؤلاء الأئمة فهو أضل من حمار أهله‏.‏

ويحبون أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويتولونهم، ويحفظون فيهم وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال يوم غَدِير خُمّ‏:‏ ‏(‏أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي‏)‏، وقال ـ أيضًا ـ للعباس عمه ـ وقد اشتكى إليه أن بعض قريش يجفو بني هاشم ـ فقال‏:‏ ‏(‏والذي نفسي بيده، لا يؤمنون حتى يحبوكم لله ولقرابتي‏)‏، وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن الله اصطفى بني إسماعيل، واصطفى من بني إسماعيل كنانة، واصطفى من كنانة قريشًا، واصطفى من قريش بني هاشم، واصطفاني من بني هاشم‏)‏‏.‏

ويتولون أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم أمهات المؤمنين، ويؤمنون بأنهن أزواجه في الآخرة، خصوصًا خديجة ـ رضي الله عنها ـ أم أكثر أولاده، وأول من آمن به وعاضده على أمره، وكان لها منه المنزلة العالية‏.‏

والصديقة بنت الصديق ـ رضي الله عنهما ـ التي قال فيها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام‏)‏‏.‏

ويتبرؤون من طريقة الروافض، الذين يبغضون الصحابة ويسبونهم، ومن طريقة النواصب، الذين يؤذون أهل البيت بقول أو عمل، و يمسكون عما شجر بين الصحابة‏.‏

ويقولون‏:‏ إن هذه الآثار المروية في مساويهم منها ما هو كذب، ومنها ما قد زيد فيه ونقص وغير عن وجهه والصحيح منه هم فيه معذورون، إما مجتهدون مصيبون، وإما مجتهدون مخطئون‏.‏

وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره، بل تجوز عليهم الذنوب في الجملة، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر، حتى إنه يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم؛ لأن لهم من الحسنات التي تمحو السيئات ما ليس لمن بعدهم، وقد ثبت بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أنهم خير القرون‏)‏ وأن المد من أحدهم إذا تصدق به، كان أفضل من جبل أحد ذهالا ممن بعدهم‏.‏

ثم إذا كان قد صدر من أحدهم ذنب فيكون قد تاب منه، أو أتى بحسنات تمحوه، أو غفر له بفضل سابقته، أو بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم الذي هم أحق الناس بشفاعته، أو ابتلى ببلاء في الدنيا كفر به عنه، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين، إن أصابوا فلهم أجران، وإن أخطؤوا فلهم أجر واحد، والخطأ مغفور لهم‏؟‏

ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم قليل نزر، مغمور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم، من الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيله، والهجرة والنصرة، والعلم النافع، والعمل الصالح‏.‏

ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة، وما مَنَّ الله به عليهم من الفضائل، علم يقينًا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء، لا كان ولا يكون مثلهم، وأنهم هم الصفوة من قرون هذه الأمة، التي هي خير الأمم وأكرمها على الله تعالى‏.‏

ومن أصول أهل السنة والجماعة‏:‏ التصديق بكرامات ‏[‏في المطبوعة‏:‏ ‏[‏بكرمات‏]‏ والصواب ما أثبتناه‏]‏ الأولياء، وما يجرى الله على أيديهم من خوارق العادات، في أنواع العلوم والمكاشفات، وأنواع القدرة والتأثيرات، كالمأثور عن سالف الأمم في سورة الكهف وغيرها، وعن صدر هذه الأمة من الصحابة والتابعين وسائر قرون الأمة، وهي موجودة فيها إلى يوم القيامة‏.‏

 فصــل

ثم من طريقة أهل السنة والجماعة‏:‏اتباع آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم باطنًا وظاهرًا، واتباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، واتباع وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث قال‏:‏ ‏(‏عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة‏)‏‏.‏

ويعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدمون هدى محمد صلى الله عليه وسلم على هدى كل أحد، وبهذا سموا‏:‏ أهل الكتاب والسنة‏.‏

وسموا أهل الجماعة؛ لأن الجماعة هى الاجتماع وضدها الفرقة، وإن كان لفظ الجماعة قد صار اسمًا لنفس القوم المجتمعين، والإجماع هو الأصل الثالث الذى يعتمد عليه فى العلم والدين‏.‏

وهم يزنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوال وأعمال باطنة أو ظاهرة مما له تعلق بالدين، والإجماع الذى ينضبط هو ما كان عليه السلف الصالح؛ إذ بعدهم كثر الاختلاف وانتشرت الأمة‏.‏